'>
كنت قد توقفت عند هذه النقطة في منشور سابق، منذ عامين تماماً، أي بتاريخ 2 ديسمبر 2022م بعنوان "استقلال أم جلاء؟" تعرضت فيه لحرص النخبة السياسية (الشمالية) المتنفذة، على تغييب مفردة "الاستقلال" من القاموس السياسي الجنوبي، وحتى اليمني، واستبدالها بمفردة "الجلاء" التي تحوي من الضبابية والزئبقية ما يسمح بشطب التاريخ النضالي والمعارك السياسية والمواجهات المسلحة التي خاضها أبناء الجنوب مع القوى الاستعمارية على مدى 129 عاماً، والأكثر من هذا تغييب المعنى التاريخي العميق لإعلان الدولة الجنوبية المستقلة كاملة السيادة على الأرض الجنوبية في الثلاثين من نوفمبر 1967م، وهو (أي إعلان الدولة الجنوبية) ما لا يرضي أطماع التوجهات التسلطية للنخبة السياسية (الشمالية) بجناحيها الحوثي و"الشرعي" اللتين لا تريان في الجنوب إلا فرعاً لهما باعتبارهما "الأصل" الذي إليه ينبغي أن تعود كل "الفروع".
ثقافة "الأصل والفرع" ليست حالة طارئة أو عابرة- نشأت في لحظة وستختفي من العقل الباطن لمراكز القوى ذات النفوذ السياسي (الشمالي) سلطةً كانت أم معارضة، بل هي ثقافة أصيلة عميقة الجذور تعود إلى زمن الغزوات المبكرة التي كان الشمال فيها غازياً والجنوب فيها ضحية الغزو، منذ كرب إيل وتر (650 ق م) حتى علي عبد الله صالح وشركائه (1994م)، وشتان بين غازٍ وغازي، وما يزال تلاميذ المدرسة العفاشية يحفظون الدرس جيداً وهذا ما تجلى خلال اليومين الماضيين من خلال التغريدات وبرقيات التهاني والخطابات الرسمية إذ مع كل ذكرى للاستقلال الوطني لدولة الجنوب، في 30 نوفمبر من كل عام، ومنها هذا العام يتجلى الإصرار الفج على استغفال الشعب الجنوبي ومواصلة عملية تزوير التاريخ وتصوير ما جرى خلال سنوات النضال الوطني الجنوبي ضد الاستعمار البريطاني، منذ العام 1839 حتى اتفاضات ما قبل ثورة 14 أوكتوبر 1963، وسنوات الكفاح المسلح، على إنه شغب صبياني أو خطيئة سلوكية ينبغي تصحيحها.
كل هذا يمكن النظر إليه على إنه كومٌ من الاستهتار بالتاريخ الجنوبي العريق، والاستخفاف بمشاعر الثوار وأهاليهم وبدماء وأرواح الشهداء العظماء من أوزان راجح لبوزه ومهيوب علي غالب (عبود) و(عباس) وعبد النبي محمد (مدرم) وعبد القوي مفلحي ورفاقهم وذرياتهم، وبغيرهم من القادة التاريخيين من صناع وبناة وقادة جمهورية اليمن الديمقراطية.
أما الكوم الأسواء من هذه اللعبة المقززة فهو يأتي بأن الذين يحتفلون ويهنئون بعضهم بعضاً بحدثٍ لا علاقة لهم به إلا أنهم سطوا عليه كما سطوا على كل خيرات وثروات شعب الجنوب وحولوها إلى أملاك خاصة بهم، أقصد من يحتفلون بما يسمونه بــ"عيد الجلاء" هم من ألدِّ أعداء ذكرى استقلال الجنوب وإعلان دولته، ومن أنشط المساهمين في تدمير الجنوب ومنظومته السياسية وقواته المسلحة وكل الأجهزة والمؤسسات التي بنتها دولة الاستقلال، وهم ينتمون إلى المعسكر الذي لم يدخر جهداً كبيراً ولا صغيراً إلا وبذله في سبيل اقتلاع كل علامة من العلامات التي تذكِّر الجنوبيين بدولة 30 نوفمبر وبصماتها الخالدة في ذاكرتهم طويلة المدى.
والأسوأ من هذا أن يتحدث بعض الصبية الذين وقفوا في صف الغزو الانقلابي الثاني وأرسلوا جنودهم وأسلحتهم وتجهيزاتهم لمواصلة تدمير الجنوب، يتحدثون عن القيم والمعاني التي يمثلها 30 نوفمبر وهم لا يرون في هذا الاستقلال أو "الجلاء" (كما يسمونه)، لا يرون فيه سوى تاريخ حرر لهم أرضاً لينهبوها ويضيفوها إلى غنائمهم ومقتنياتهم، ولا شيء غير ذلك.
سينصرف هؤلاء إلى طابور الساقطين في امتحان الوطنية والأمانة التاريخية وستبقى ذكرى الاستقلال خالدةً في ذاكرة الملايين من الجنوبيين والشرفاء الذين رووها بدماء أبنائهم وغذوها بأرواح شهدائهم.
وسيبقى وسيُخَلَّد الاستقلال، وسيزول "الجلاء" المشوَّه وأدعياؤه.